ظاهرة تغزو الآن عالم الانترنت، هي المدونة أو الـ"بلوغ" مثلما يسمونها في الغرب. المدونة عبارة عن صفحة على الشبكة تنشر تدوينات (مداخلات) مؤرخة ومرتبة ترتيبا زمنيا تصاعديا، تصاحبها آلية لأرشفة المداخلات القديمة، وهي تشبه دفتر اليوميات، لكنها تستقبل أيضا تعليقات على المواد المنشورة من زائري الصفحة، اي أن ثمة تفاعلا بين كاتب اليوميات او المدوّن (blogger) وقرائه. تتيح هذه الآلية لكل شخص أن ينشر كتابته بسهولة بالغة، ولهذا السبب يعتبر التدوين وسيلة للنشر والتعبير والتواصل، ووسيلة للدعاية والترويج للمشروعات والحملات المختلفة. وتراوح الموضوعات التي يتناولها الناشرون في مدوناتهم بين اليوميات والخواطر والإنتاج الأدبي والكتابات المتخصصة في مجالات محددة. توجد مدونات تقتصر على شخص واحد، وأخرى جماعية يشارك فيها العديد من الكتاب، وهناك ايضا مدونات محترفة، على غرار ما نتابعه في بعض الصحف البارزة (تقدم جريدة "لوموند" مثلا في نسختها الالكترونية عشرات "البلوغات" حول موضوعات مختلفة، ثقافية واقتصادية وفكرية وسياسية واجتماعية).
القاهرة - من إبرهيم فرغلي:
كانت الحرب على العراق أحد أسباب انتشار ظاهرة التدوين على الشبكة في العالم العربي، اذ ظهرت يومذاك مدونات كتبها عراقيون يعيشون في العراق وصفوا فيها يومياتهم وتفاصيل حياتهم في الأيام الأخيرة لنظام صدام حسين وأثناء الاجتياح الأميركي. اكتسبت بعض هذه المدونات شهرة واسعة وعُدَّ قراؤها بالملايين، وطبع أحدها وهو "أين رائد؟"، المكتوب في غالبيته العظمى بالإنكليزية، في كتاب.
ماذا عن مصر؟ ربما لا يتجاوز عدد المدونين المصريين نحو 400 مدون، لكنهم استطاعوا في زمن وجيز أن يشكلوا ظاهرة جديدة، الى درجة جعلت الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل يشير إلى إحدى هذه المدونات في برنامج حواري له في قناة "الجزيرة" في أيلول الماضي قائلا: "في مجتمع الإنترنت أجد شخصا يكتب باسم مستعار هو بهية، أقرأه باعتبار وباحترام أكثر من قراءتي لأي صحافي في أي جريدة".
بين الظواهر العديدة التي خلقتها المدونات تتشكل في مصر الآن تجارب أدبية جديدة أبطالها من الشباب المهتمين بالأدب يقدمون خبراتهم بأساليب تتمتع بالحداثة والعفوية والبساطة المركبة أحيانا، وبعضها يمد حبال الحرية الخلاّقة إلى حدودها القصوى، وأحيانا إلى ذروة الشطط. فهل تكون الإنترنت هي الوسيط الجديد الذي تتشكل من خلاله ظاهرة كتابة جديدة تتلامس أساليبها مع بعض الكتابات الحديثة، مثلما جرى أخيراً مع كاتب شاب هو أحمد العايدي في روايته "أن تكون عباس العبد"، التي مثلت بلغتها وتشظيها وهذيان بطلها شكلا جديدا ومفصليا في الأدب المعاصر؟
اطلعتُ على بعض هذه المدونات وأعجبني الكثير منها مثل "حدوتة مصرية" (رحاب بسام) و"على القهوة" (سقراط) و"خيال الظل" (إبليس)، و"القطط العمياء" (غيفارا)، و"تياترو صاحب السعادة" (زرياب)، و"جزمة حريمي" (للثلاثي بيانيست وغيفارا وسولو) و"حياة ديدو" (دينا الهواري) وغيرها.
كتابة تفاعلية؟
الإجابة عن السؤال ليست بالسهولة التي قد تبدو بها؛ لأن الدوافع التي دعت هؤلاء للتدوين تختلف من مدوّن الى آخر، لكنها في النهاية تأتي كاستجابة طبيعية لإرضاء شهوة الكتابة، على ما يقول أحد المدونين كريم إبرهيم: "الجميل في التدوين أنك حر تماما، لن يطالبك أحد بأن تعطي وصفا نوعيا لما تكتبه، ويمكنك أن تقرأ تدوينة ما وتتفاعل معها، ويصلك منها أفكار ومشاعر قبل أن تفكر هل ما قرأته قصة قصيرة أو قصيدة نثر أو مقال". ترى مدونة أخرى هي جين لوميل أن المدونات بعدد المدونين الحالي قد لا تسمح بتشكل ظاهرة، لكنها بالتأكيد فتحت الطريق "لنوع جديد من الكتابة التفاعلية" البعيدة عن القيود المعتادة، والحرة إلى حد الجنون أحياناً. وفعلا، الحرية هي العنوان العريض لهذه الظاهرة، فنقرأ فيها تعليقات بلا لجام، على غرار هذا التعليق الذي نصادفه في إحداها مثلا: "أعلم أنني خيبت أمل أمي فيّّ. كانت تريدني بنتاً مثالية تشرب اللبن قبل النوم، وتساعد اخواتها. بنت بلسم، مؤدبة، إلى آخر هذا الهراء. ولأن هذا هو النموذج الأكثر استدعاء لقرفي، ظللت في نظر أمي البنت المشكلة، هذا رغم أنها لا تعرف عن بلاويي إلا قشطتها. والله "أمي دي على نياتها".
هناك أيضا ايجابية سهولة النشر وسرعته، فالفكرة التي تطرأ على رأس المدون من الممكن أن تكون مقروءة من العشرات خلال دقائق، ومن المئات خلال أيام ومن الآلاف خلال أشهر. هل يملك كل كاتب مغمور هذه الفرصة بكتاباته بسبب وجود جهاز مثل الكومبيوتر؟ يرى أحمد الفخراني أن المدونات تعطي حرية اكبر في التعامل مع اللغة والفكرة، "مما يتيح لنا قدرا أكبر من التمرد والابتكار. إذا كان لي أن أتحدث عن مدونتي فأنا لست صانع قضايا، إنما صانع أشكال فنية".
أيا تكن الدوافع فالثابت أن هناك ظاهرة "أدبية" عربية تتشكل، بدأت تفرز نوعا من السمات المشتركة، منها مثلا أن المدونات تنتظر الشكل، على ما يقول أحمد الفخراني: "عندما أكون في صدد موضوع ما أنتظر القالب الفني الذي سأعالجه به". وهي ملاحظة في محلها، وتنطبق على الكثير من المدونات وخصوصاً رحاب بسام التي لها مدونة عنوانها "نظريتي اللغوية" تعالج فيها هذه المسألة ببراعة. ربما تكون أهم السمات المشتركة بين المدونين، الحرص على بساطة اللغة، بلا استعراض لجمالياتها إلا في ما ندر على قول كريم إبرهيم: "التدوين في الأساس مساحة للصراخ، يريد الفرد أن يفهمه الآخرون، فجيلنا يشعر أن لا وقت للتعقيدات لأنها موجودة في أشياء كثيرة أخرى". ربما لذلك يستخدم المدونون العامية كثيرا، أو يمزجونها بالفصحى في بعض الأحيان. وكثيرا ما تكون لغة ثائرة، "غير مقيدة بآداب المجتمع المصري المتحفظ بشكل عام وموروثاته"، على وصف كريم إبرهيم. قد تنطوي السمات المشتركة نفسها على موانع فكرة لجوء المدونين الى النشر الورقي، فهي فكرة تبدو مفارقة ومدهشة لغالبية المدونين: "أنشر مدونتي في كتاب؟! ما زلت أتعجب أن هناك من يقرأ مدونتي أًصلا! لذا لا أظن أن أحدا سيشتري هذا الكتاب". ورغم استنكار جين لوميل إلا أنها تضيف: "هذا الطرح يستدعي تساؤلات عن جدوى النشر الورقي بعد اتساع دائرة قراءة المدونات، وكون الكتاب محروما من التفاعل الذي تقدمه المدونة، فإن إغراء رؤية اسمك مطبوعا على ورقة شيء لا يمكن إنكاره".
هناك بعد آخر لا يمكن توافره في الكتاب الورقي، تقول رحاب بسام، هو إضافة الوصلات (links) "التي تغنيك عن الهوامش النمطية في الكتاب وتثري المدونة بعوالم لا نهائية تشعر معها أنك فتحت صندوق الدنيا". ومع ذلك فإن رحاب بسام بدأت تفكر بجدية في النشر الورقي، لكنها تنتظر أن يصل اقتناعها الى درجة تجعل هذه الخطوة مبررة بالنسبة اليها. حتى الآن لا يزال طابع الكتابة حميميا، يشبه البوح، بوح حميم يدقّ أبواب القلب، فنقرأ رحاب بسام تكتب مثلا في إحدى مدوناتها: "أدركت اليوم أنني نجحت في تحقيق ما ظل الجميع يحضونني عليه: نجحت في التأقلم. بعد شهور عديدة تأقلمت على فكرة الفراق، وهي الفكرة التي ظللت طيلة كل تلك الشهور استغربها ولا أفهمها: لا أفهم كيف أكون أنا هنا في حين يكون هو هناك، لا أفهم كيف يكون هنا هناك وهناك هنا، بعدما كان كل شيء هو "هنا" فحسب". في حين تبوح لنا دينا الهواري بالآتي: "رغم كل ما يبدو عليّ من صلابة و قوة أنا هشة جداً من الداخل. ربما يرونني شرسة، ربما يرونني من القوة بحيث انهم يظنون أنهم لن يهزموني يوماً... ولكن في أعماق أعماقي اعلم كم أنا ضعيفة جداً من الداخل، رغم كل الاصرار وكل العناد. حين يشتدّ الطرق، بكل هشاشة انكسر".
على الجهة الاخرى
سمة مشتركة أخرى بين المدونين اكتشفتها خلال حواري معهم: عدم معرفتهم بأعمال جيل التسعينات وكتاباته؛ فكريم والفخراني مثلا لم يقرأا سوى كتاب واحد لكل من عصام راسم فهمي (الحكروب) وأحمد أبو خنيجر وياسر شعبان. أما رحاب بسام فلم تقرأ إلا لبعض الكاتبات من جيل التسعينات مثل ميرال الطحاوي ونورا أمين ومي التلمساني، لكنها في شكل عام لا تجد في هذه الكتابة ما يمثلها: "أشعر أنهن يكتبن كتابة علاجية، لا أشعر أنها تمثلني كبني آدم أو كأنثى". وهي تجد أعمالا أخرى أقرب اليها كثيرا مثل كتابات أهداف سويف ولطيفة الزيات ورضوى عاشور وصنع الله إبرهيم وبهاء طاهر وغيرهم. ولا حتى كتابات شاب أقرب الى هذا الجيل هو أحمد العايدي الذي لم تسمع به جين لوميل من الأساس، ولم يقرأه الفخراني، في حين يقول كريم إنه لم يعجب بالرواية لأنها مقتبسة من فيلم "نادي القتال" وكان الأصل شديد الجودة، فما جديد العايدي؟
على الجهة الأخرى، فإن الغالبية العظمى من كتّاب جيل التسعينات لم تنتبه الى هذه الظاهرة بعد. ومنهم مصطفى ذكري الذي يرفض فكرة التصنيف وفقا لجيل من الأساس، لأنه يرى أن ما حصل مع التسعينات تسبب في وضع الكتاب مطلقاً في سلة واحدة رغم التباين الشديد في أساليبهم واهتماماتهم.
الكاتبة سحر الموجي لا تخفي إعجابها بمدونة رحاب بسام وآخرين من الذين يكتبون بالإنكليزية، لكنها تشك كثيرا في قدرة المدونات على تشكيل ظاهرة أدبية لقلة عدد المدونات المشغولة بالأدب، وعدد المدونات عموما (تشير الإحصاءات الى أن عدد المدونين في إيران مثلا يصل إلى سبعين ألف مدونة)، وتاليا هي ترتبط بفئة ذات خلفية محددة. كما أنها لا تخلق حالة نقدية موضوعية لا توفرها تعليقات المدونين على ما يكتبونه وقد تظل تدور في الفلك نفسه لسنوات، "بالإضافة إلى أن هذه التعليقات تشتت انتباهي عن النص، بشكل شخصي لا أكاد أتخيل القراءة سوى بكوني ممسكة الكتاب بين يدي ومعزولة في غرفتي أو على فراشي" .
أما الكاتبة منصورة عز الدين فهي متابعة جيدة للمدونات ومتحمسة لها، ومدركة لإغرائها الذي يماثل تأثير الإدمان، وتعبر عن إعجابها بمدونات عدة منها مدونة رحاب بسام ودينا الهواري وغادة محمود وشروق علاء الدين، وعدد من مدونات محمد علاء الدين. ترى منصورة أن للمدونات أسلوبا وسيطا بين الأدب والصحافة، فهي تتسم بتحييد القيم النقدية وبالحرية الشديدة في الكتابة والقراءة، ويقترن أسلوبها بالعفوية والطزاجة، لكن لا يمكن التحمس للمدونات بشكل مطلق لمحدودية عدد المدونات الأدبية المتميزة. وتشير عز الدين إلى تعامل الوسط الثقافي مع الظاهرة بنوع من التعالي، لكنها تراهن على إمكانات المدونات في الإضافة على الكتابة والأدب بشكل عام في المستقبل القريب.
(ں) عناوين بعض المدونات:
- رحاب بسام hadouta.blogspot.com
- تياترو صاحب السعادة zeryab.blogspot.com
- عالقهوة 3alkahwa.blogspot.com
- القطط العمياء garad.blogspot.com
No comments:
Post a Comment