الجزيرة تساعد في كسر الصمت
قرن من الزمان قد ولى تقريباً منذ أن رسمت حدود الدولة التي تقسم حالياً منطقة الشرق الأوسط. تم التفاوض حول شكل هذه المنطقة خلف الأبواب المغلقة، وأصبحت واقعاً مفروضاً من قبل القوى الاستعمارية دونما استشارة شعوبها. وما زال أثر هذه الصفقات يسكن المنطقة، حتى أن الكثير سيرى بأن هذا يلعب دوراً محورياً في زعزعة استقرار المنطقة.
بعض هذه الدول التي استطاعت أن تنزوي عن هذا المنحنى تفوقت لاحقاً وحصلت على استقلالها وتطورها الاجتماعي، في حين ظلت دول أخرى ما زالت تتبنى الموقف المحافظ. ولكنهم تقريباً، ودون أية استثناءات، التقوا عند مفترق طرق احتكارية المعلومات والاتصالات، التي دعمها الهيمنة والرقابة المفروضة على الإعلام. ولسنوات عديدة، ظلت أصوات المعارضة والانتقاد وحتى الكشف المحدود لما يجري خلف الأبواب المغلقة مقموع بعبارة لطالما سمعناها وهي " ليس الوقت المناسب" أو تلك القائلة " نحن في معركة التحرير والتنمية"، وأن مثل هذه المعارضة وتلك الشفافية هي فقط، كما تدعي القوى المالكة لزمام السلطة، من شأنها أن تضعف الوحدة وتقوض زمام المصلحة الوطنية".
هذه الحالة لا تزال تختلقها الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وحلفائها ممن يدعمونها دولياً في المنطقة، والتي تأتي رداً على انزواء المنطقة لمرحلة أخرى من مطالب التغيير. بيد أن هيمنتهم وسيطرتهم على مصادر المعلومة، أضف إلى ذلك الاحتكار الغربي الموسع للاتصالات الدولية، آل للانكسار والانهيار.
وعلى مدار الخمسة عشر عاماً الماضية، نجح الإعلام الحر في منطقة الشرق الأوسط تدريجياً في كسر قبضة السلطة الرسمية والبدء على الفور في إظهار مشاعر الإحباط التي يخالجها بوادر الطموح لشعوب تلك المنطقة. وكانت قناة الجزيرة هي أول هذه الشبكات الإعلامية الإقليمية التي تكسر هذا الحظر على حرية تداول المعلومات. وكان الثمن باهظاً من أجل تحقيق ذلك، حيث ما ترتب على ذلك من صراعات مستمرة مع كثير من الأنظمة الحاكمة، والإغلاق الذي تحول لعادة لمكاتبنا سواء في البحرين أو في المغرب، فضلاً عن عمليات الاعتقال والتعذيب، حتى أن الأمر تطور لقتل صحفيينا ومراسلينا، ناهيك عن تحمل اتهامات مشبوهة واشاعات مغرضة هدفها النيل من مصداقيتنا. وكانت المحاولة الأخيرة لإخراسنا قد وقعت أحداثها الأسبوع الماضي عندما قطعت إدارة النايل سات المملوكة للحكومة المصرية الإرسال وأوقفت بث القناة.
هذا الكسر للحصار الإعلامي المعلوماتي من جانب القناة الفضائية كان مدعوماً ومعززاً بقوة في ظل الانتشار الواسع للتقنيات الحديثة. وحتى في الوقت الذي كانت الدول تحاول فيه استخدام هذه التقنيات لتعزيز الرقابة، بزغت على الساحة فرصاً جديدة غير متوقعة – حيث وجد شباب المنطقة في شبكة الإنترنت، يوتيوب وفيسبوك وتويتر، كغيرهم من الشباب حول العالم، منبراً تلتقي فيه أصواتهم. فكاميرات التصوير بالهواتف المحمولة وأفلام الفيديو تسمح لهذا العالم بأن يرى ما وراء متناول الكاميرات التليفزيونية المهنية. وقد أصبح متاحاً من خلال هذه القطعة الصغيرة من الذاكرة أن تدخل لعالم يتضمن كماً هائلاً من المعلومات المسربة التي تكشف ما يدور في الخفاء ويتم باسم الشعوب.
ولكن الجلي وبكل حسم وثقة أن هذا التعاظم في التحالف القوي بين الإعلام الحر والإعلام الجديد الناشئ، والذي تقوده قناة الجزيرة في منطقة الشرق الأوسط، هو الذي يقود في الوقت الراهن هذا النشر المعلوماتي الموثق بالأدلة والثبوت المتعلق بالمنطقة، سواء موجه إليها أو منقولاً عنها. وعبر هذه الشبكة الاجتماعية الباسلة، وصلتنا صور الانتفاضات المصرية والتونسية التي انطلقت من شعاب القرى المحلية إلى قاعدة مشاهدينا العريضة العالمية التي تتجاوز الـ 200 مليون مشاهد. لم نكن الأوائل في نشر ذلك، ولكننا كنا حاضرين في جميع الأماكن نستبق الانتشار في الأطراف والبقاع التي يعرفها الجميع.
كنا مع الحشود عندما تظاهرت خارج وزارة الداخلية التونسية، أكبر رمز للتعذيب والقمع، وهو ما جرت عليه العادة في أغلب الدول العربية. قمنا بالبث المباشر من ميدان التحرير في القاهرة ليلاً ونهاراً وفي الاثنا عشر يوماً الأخيرة برغم كافة المحاولات التي كانت ترمي إلى مصادرة كاميراتنا والقبض على مراسلينا.
هذا التحالف الجديد أعطانا حافزاً ودافعاً تحولياً يتعلق بدور الإعلام المهم للغاية - حيث إتاحة المعلومات لكل من يرتئي في نفسه أهل للسلطة في المنطقة وأعني هنا شعوب دول الشرق الأوسط أنفسهم. بمجرد وصول الشعب إلى هذه المعلومات، فإن بإمكانهم تقرير مصيرهم، ونعتقد أيضاً بأنهم سيقومون بعمل خيارات لأنفسهم أفضل من الآخرين، تلك الخيارات التي نتطلع لأن تكون المؤدية إلى مستقبل ديمقراطي وأكثر سلمية.
إن الدور الذي نقوم به الآن لا يختلف عن هذا الذي تقوم به كافة وسائل الإعلام الموصومة بالأفضلية في الدول المتقدمة – حيث استخلاص المعلومات من المتسلطين ومصادر النفوذ لتمريرها إلى المصدر الأعلى للسلطة، وهو الشعب. غير أن الاعلام الحر ما زال يعاني من مقصلة الهجوم المستمر في المنطقة لافتراض أنه " يخون المصالح الوطنية"، أو بالأحرى وخلال هذا التوقيت الذي نكتب فيه تلك التقارير، اتهامه بحيازة أجندات سياسية خفية تهدف لزعزعة الاستقرار في المنطقة. والحقيقة أن هؤلاء ممن يختلقون هذه الاتهامات هم فقط يبرزون تصميمهم على إبقاء شعوبهم في دياجير الظلام وجعلهم بمنأى عن الحقائق التي تعلق بحياتهم الخاصة، حيث العجز عن التقويم أو التكيف أو حتى القبول بمصيرهم على هذا النحو من الإرادة الجماعية وخصوصاً وأنها ليست سوى قرارات تتخذها أقلية.
وقد كان هذا القدر من الاتهامات هو حال الأسابيع الماضية، والتي وجهت إلينا من قبل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وقد جاءت في أعقاب بثنا ونشرنا لوثائق فلسطين، تلك الوثائق التي سربت لأول مرة متضمنة محاضر ووثائق المفاوضات الفلسطينية السرية الداخلية. وقد زودتنا بهذه الوثائق، التي قمنا بنشرها بالتعاون المشترك مع الجارديان تقديراً منا لأهمية المادة الصحفية وإيماناً منا بأن أياً من المصادر لا يحق له أن يحتكر مثل هذه المادة الحساسة، مصادر أيقنت بأن السلطة الفلسطينية تاهت وضلت طريقها. ونأمل أن تكون وحدة الشفافية الجديدة بالجزيرة في الوقت الحالي هي المستقبل لمزيد من هذه التسريبات القادمة عبر المنطقة وفيما وراءها.
ما من شك بأن الشرق الأوسط يمر بمرحلة تحول تاريخية فارقة. والجزيرة وقريناتها في الإعلام الحر ليست السبب في هذه الموجة من الانتفاضات والانفلات والشغب الذي يعصف بالمنطقة بأسرها. فالأسباب أعمق بكثير وبعيدة عن دور الإعلام. ولكننا أحد أهم العوامل الهامة في منح تلك الشعوب في المنطقة الوسائل التي من خلالها يمكن الاضطلاع بأمور حياتنا. إن ما يبدو مؤكداً الآن أن مصير الشرق الأوسط لا يمكن أن يتحدد الآن خلف الأبواب المغلقة.
* المدير العام لشبكة الجزيرة القطرية
No comments:
Post a Comment